مقال عن قصة سفيرة لبلدي للمبدعة الصغيرة فريدة محمد
بقلم: وليد كمال
إن أصعب أنواع الكتابات، الكتابة السياحية أو المعلوماتية إن جاز التعبير، حيث يكون الكاتب مضطراً لكتابة معلومات كثيرة دقيقة، قد تحوي أرقاماً وأماكن يعتبرها القارئ مملة داخل الإطار القصصي.
ولكن فريدة استطاعت بمهارة وحرفية شديدة أن تستعرض معلومات مهمة ومقصودة، تضم أرقاماً وأماكن وتواريخ ومساحات بدون ملل أو تشتيت لذهن القارئ، من خلال قالب قصصي ممتع وجيد وشيق في ذات الوقت، ليس فقط لاستعراضها معلومات جديدة لي شخصياً كقارئ واستمتعت بها، ولكن لأنها وضعتها في قالب قصصي منضبط وحقيقي ويحمل الشغف في طياته وثناياه.
لقد غلفت فريدة الطفلة المبدعة استعراضها لمصر الحديثة أو الجمهورية الجديدة بغلاف مبدئي من التضاد، بين نفور الطفلين نور وريم من زيارتهما لمصر وتصورهما عنها أنها مجرد حضارة قديمة عريقة، قد ملا منها، ولا يوجد فيها جديد، وبين انبهارهما بمصر الحديثة والجمهورية الجديدة، وهو ما أعطى بعداً للقصة مثيراً، وقربها إلى الأطفال الذين هم يبحثون دائماً وبشغف عن كل جديد.
ولم تكتف فريدة بذلك، بل أضفت إمعاناً في الاستمرار نحو جذب القارئ حتى آخر لحظة وكأنها كاتب كبير السن عميق الخبرة، يمتلك من الوعي ما يجعله يبدع في جذبه القارئ؛ بلغز يظل حله حتى النهاية غامضاً! وهو ما تمثل في حرفية فريدة الشديدة وهي تصوغ تطور الحدث داخل القصة، والطفلين يكتبان كتاباً عن مصر الحديثة، ولكنهما طوال الوقت لم يجدا بعد عنواناً لذلك الكتاب، رغم إعجابهما وانبهارهما الشديدين بالجمهورية الجديدة، وهو ما يضع تساؤلاً أو بالأحرى تحدياً أمام القارئ مبدعاً كبيراً أو صغيراً، أو كطفل يهوى المشاركة فيما يقرأ ويتخيل أن أمامه تحدياً لإيجاد عنواناً للكتاب.. فماذا سيكون؟
كما لعبت فريدة بمهارة تحسد عليها كعازف ماهر على آلة العود لتطرب القراء، ويصفق لها المبدعون من الكبار لتميزها، حين لعبت لعبة تبادل الأدوار بين الكبار والأطفال، فالجد مرشداً سياحياً أو كان كذلك، فيتحول نور بما جمعه من معلومات لمرشد سياحي صغير، وهو ما يفعله الصغار دوماً حين يتطلعون للمستقبل بحماس وشغف، ومحاولتهم أن يكبروا بسرعة لينافسوا الكبار، وبخاصة النماذج الناجحة في حياتهم الأسرية أولاً والمجتمع ثانياً، وهو ما قدمته لنا المبدعة بحق فريدة محمد، حيث تناولت لعبة تبادل الأدوار بسلاسة وأريحية دون تكلف أو عناء.
مستخدمة وسائل العصر الحديث كالهاتف والإنترنت بشكل إيجابي، وهو ما يعطي درساً آخر دون تكلف أو عناء، عن أهمية هذه الوسائل في حياتنا.
ولعل ما لفت نظري أيضاً في قصة مصر بعيون طفلة، وأضيف أنا للعنوان مبدعة، هو العودة لأخلاق وطباع الأسر المصرية القديمة، أو التي نفتقد كثيراً منها الآن وهو ما جعلني أقول القديمة، فقد أصبحت بعض التصرفات مثل حضارتنا القديمة، لا تراها إلا في متحف، أو تقرأ عنها في كتاب قديم، فها هو الطفل نور بطل القصة يستأذن والده في استخدام الإنترنت على التليفون لجمع معلومات عن مدينة العلمين الجديدة، وطرأ بذهني فجأة ما أراه من أطفال يبكون ويضربون رؤوسهم بالأرض، في محاولة لإجبار والديهم على إعادة إعطائهم موبايلاتهم، التي كاد يفرغ شحنها من طول استخدام الأطفال لها، والعجيب أن الآباء يستجيبون! لكن فريدة قدمت لنا النموذج الإيجابي بهدوء، أخشى أنه يرتبط بالتربية الأوروبية التي تعي الصواب والخطأ، والذي لم يعد يلتفت إليه بعض الآباء والأمهات في مجتمعاتنا العربية، وأجامل حين أقول بعضهم.
ومما أعجبني في قصة فريدة نقلاتها بين حدث وآخر، والذي اتسم بالتنوع فلم يشبه انتقال الطفلين لمدينة الدواء؛ السابق من الأماكن، لكنه جاء بناء على سؤال مهم عن العلم وأهميته، بناء على حوار تذكره ريم لمدرستها عن أهمية العلم والتكنولوجيا
وقد استمتعت بهذا الكتاب أيما استمتاع، كما استفدت منه أيضاً، فقد كان بمثابة قصة شيقة تحمل معلومات جديدة على أذني وعقلي، وبطريقة كنت أتمنى أن أتلقى بها المعلومات في صغري، بديلاً عن تلقي المعلومات في صورتها الجامدة في مراحل التعليم المختلفة، ولا سيما وأنا كبير أيضاً، فهي طريقة شيقة ومشجعة للاطلاع دون ملل أو مباشرة، كما أعجبني كثيراً الصور المنتقاة بعناية للأماكن التي تدور فيها أحداث القصة، فقد كانت معبرة واستوقفتني بمشاهدتها، وإن كنت أرى إذا سمحت لي فريدة أن الأفضل كان تحويل هذه الصور لرسومات مصحوبة بشخصيتي القصة البطلان نور وريم، فهي حقيقة قصة ذات بداية ووسط ونهاية وتحول للشخصيات، كان من الأفضل أن تتحول لقصة مرسومة لتكتمل أركانها للطفل القارئ، بعيداً عن الصور التي قد توحي بأنها قصة معلوماتية سياحية.
وأخيراً وليس آخراً .. أذكر تعليقاً استوقفني وأنا أقرأ في صفحة ٢٥ تصورت في البداية أنه خطأ أو على أقل تقدير يحتاج للمراجعة من الكاتبة، حين أنهى الطفلين رحلتيهما ودخلا غرفتهما، وكان لي تعليق حينها، أن الكاتبة كانت لابد وأن توضح أنهما عادا من الرحلة للمنزل، ومن ثم دخلا غرفتيهما، ولكن ومع نهاية القصة أو نهاية الرحلة كما ذكرت فريدة في صفحة ٣٣، “وشكرا الدكتور عز الدين والتقطا الصور التذكارية معه، وشعر الجد أنه استطاع أن يغير وجهة نظرهما، ودخل غرفة حفيديه…..” هنا وجدتني أتساءل من جديد هل كان الأفضل أن يعودا من الرحلة ويدخلا المنزل ومن ثم يدخل عليهما الجد الغرفة؟
إلا أنني سرعان ما أجبت نفسي .. أن هذا الأمر بديهي ومنطقي ففي نهاية كل رحلة عودة للمنزل! فما الذي يدفع الكاتبة في كل مرة وبخاصة أن الرحلات متكررة داخل القصة، لكتابة ثم عادت للمنزل .. ثم رجعت للبيت .. ثم ثم ثم.. في الواقع إن تكرار نفس الفعل، دون إضافة مبررة درامياً أو جديد يذكر، سوف يخل بالإيقاع وقد يدخل الملل لنفس القارئ من تكرار نفس الفعل على مدار القصة.
وهنا يحضر لذهني بقوة أهنيء فريدة عليها إن كانت تقصد ذلك بالفعل، أو أحييها على ما لم تكن تقصده لو كان عفوياً، وهو تأثرها بالأسلوب القرآني الذي هو من رب العزة، حين يقول في سورة طه عن قصة سيدنا موسى بسم الله الرحمن الرحيم
“اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴿42﴾ اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴿43﴾ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ﴿44﴾ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَىٰ ﴿45﴾ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ ﴿46﴾ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ ﴿47﴾ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَىٰ مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴿48﴾ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ ﴿49﴾ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ﴿50﴾ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَىٰ ﴿51﴾”. صدق الله العظيم.
وهنا أوضح أنني في كل مرة أقرأ هذه الآيات ومثيلاتها، أتوقف عند الأسلوب الذي يتحدث به رب العزة، وكيف ينتقل من الحوار التلقيني إلى الحدث دون مقدمات أو مراحل، وهو ما يثير تفكيري ويجعلني أتمنى أن أكتب متأثراً بالأسلوب القرآني وما أعظمه.
وقد أعجبت بنهاية القصة، وإن كنت أرى أن بطلا القصة كان من الممكن أن يستيقظا بحماس استعداداً لرحلة جديدة، فيفاجأن بأنها رحلة العودة إلى أوروبا، ولكن النهاية جميلة ومعبرة عن عنوان القصة “سفيرة لبلدي” وبالطبع سأؤكد على استئذان ريم لشقيقها نور في كتابة اسم سفيرة لبلدي على غلاف الكتاب، ليس تحيزاً للبنات كما أفعل دوماً، ولكن لأن ريم على عكس نور الذي أبدى رغبته في البقاء في مصر حباً فيها وفيما شاهده، قد أصرت ريم على العودة لأوروبا لتحكي لأصدقائها عن مصر وتصبح بحق سفيرة لبلدها.