
بقلم/ شجون حسن
ما أكثر ما أسرَتنا الشاشات حتى غدت أعيننا كالسجينة في قفص من الضوء البارد! نتنقّل بين هاتفٍ وتلفازٍ وحاسوبٍ كمَنْ يلهث وراء سرابٍ لا ينتهي، فإذا بالوقت ينفلت من بين أصابعنا، وإذا بالأيام تتشابه كأزرارٍ على لوحةٍ صمّاء.
ولأن في كل أمة أصواتًا غيورة على عقلها وضميرها، دعونا نُقدِمُ علي يوم بلا شاشات” ليذكرنا أن القلب له لغة غير لغة الأجهزة، وأن العقل العربي الذي تحاصرُه خوارزميات العولمة، ما زال قادرًا أن يثور في صمتٍ، ويستعيد وعيه من قبضة الشاشات.
إنها دعوةٌ لا إلى الهروب من التكنولوجيا، ولكن إلى استرداد إنسانيتنا من بين أنيابها؛ دعوةٌ لأن نُعيد النظر في أوقاتنا المسلوبة، وأن نمنح أعيننا إجازة من ضجيج الصور المتلاحقة، وآذاننا راحة من طوفان الأصوات المتشاكسة. يومٌ بلا شاشات، هو يومٌ نرى فيه ملامح أبنائنا بصفاء، لا من وراء زجاج الهاتف، يومٌ نسمع فيه حكاية أمٍّ تُطهو على مهل، لا قصةً مُسرّبةً من شاشةٍ تبتلع أعمارنا. يومٌ نعيد فيه للكتاب مكانتَه، وللحوارِ مذاقَه، وللإنسان دفءَ حضوره.
إلى متي نقاوم التّيه الذي فُرض علينا؛ فالتكنولوجيا التي وعدتنا بالحرية قد كبّلتنا بأغلالٍ جديدة، والإعلام العربي الذي كان مرآةً لثقافتنا صار مهدَّدًا أن يُستبدل بوجوهٍ مُعلّبة ومحتوياتٍ غريبة عن وجداننا.
إن حماية العقل العربي اليوم ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة وجودية؛ لأن الأمة التي تُسلّم عقول شبابها للشاشة دون رقيب، إنما تسلّم حاضرها ومستقبلها للضياع.
فلنكن إذن أوفياء لهذه الصرخة النبيلة: أن نُجرّب يومًا بلا شاشات، يومًا نترك فيه مقاعدنا المصلوبة أمام الضوء، لنمشي في الشوارع بوجوهٍ حقيقية، لنبتسم للجار بلا وسيط، ونكتب رسالة بخطّ اليد، ونرفع دعاءً خالصًا لا تترجمه خوارزمية.
عندها فقط، حين يخفت ضوء الشاشة، سيضيء نور القلب، وسنكتشف أن اللغة الأولى التي خلقها الله فينا، ليست لغة الأزرار ولا الإيماءات الإلكترونية، بل لغة إنسان يرى، ويسمع، ويحب…،
بصفاءٍ نادر لا تمنحه إلا العودة إلى الذات.