راعي اليمام مهارة التشويق في رواية عن عالم الجنوب الساحر
بقلم: حسن الحلوجي
هذه رواية أصدرها المركز القومي لثقافة الطفل لمؤلفها الكاتب محمد نجار الفارسي، بمصاحبة رسومات الدكتورة مها إبراهيم، والرواية هي الخامسة في سلسلة روايات الناشئة.
والعالم الذي نعيشه داخل الرواية تدور أحداثه في أقصى جنوب مصر، حيث لا شيء سوى الطبيعة وعناصرها، حين ينقلنا الكاتب إلى بداية الأحداث التي تدور بين جانبي النهر والجبل، في تلاحم بين مفردات هذه الطبيعة حتى أن البيوت تلاصق النهر وتقترب منه لدرجة أن أمواجه الناعمة كثيرًا ما لامست عتبات أبوابها.
مفتتح لوصف مشهد بعيد عن صخب المدينة، جديد على ذائقة القاريء الذي اعتاد الأحداث التي تدور لاهثة في زحام المدينة الصادم، أو أسيرة طغيان التكنولوجيا وأزمات العصر الحديث، لكننا في هذه الرواية لا نرى سوى النهر والجبل والبيوت البسيطة ومعهم حامد بطل الرواية، الصبي الصغير الذي يصادق كائنات الطبيعة من الأغنام والحمام واليمام، فيكون حامد جزءًا من نسيج هذه الطبيعة لأنه على معرفة جيدة بأصدقاءه من الحيوانات والطيور، لا لخبرته فقط في التعايش معها، ولكن الكاتب يشير أيضًا إلى أن معرفة حامد جزء منها بسبب القراءة، فالكتب تلازمه دائمًا إذ لم يغفل الكاتب إلى أن يشير إلى هذا المصدر من المعرفة.
ولأن حامد صار جزءًا من الطبيعة لمعايشته الصادقة لكائناتها، فإنه لا يواجه دائماً بسحر ونعومة الجداول المنسابة وزقزقات العصافير وهديل الحمام، إذ يدخلنا الكاتب مباشرة في المواجهة الأولى لحامد مع أعداء الطبيعة إن جاز التعبير، حين يصطدم بالصيادين حين يزيل أفخاخهم المنصوبة لليمام ثم يواجه فوهات البنادق التي وجهها الصيادون لليمام من أجل صيده، وهنا يبدأ حامد رحلته في خوض الصراع مع هؤلاء الصيادون حفاظًا على حياة هذه الكائنات، ليس لمجرد أنه إنسان شاعري تزعجه مناظر صيد الطيور، ولكن لأنهم أصدقائه الذين يعرف الكثير عن عالمهم وبعض أنواع الطيور التي قاربت على الانقراض، ولأنه يرى أن عبث هؤلاء الصيادين يفسد هذا الكون الصغير المتوازن الذي وصفه الكاتب في بداية الرواية كأنه عالم منفصل عن العالم الكبير الذي نعيشه.
تبدأ الأزمة بتعرض حامد لموقف إنقاذ يمامة اصطادها الصيادون ووجدها لم تفارق الحياة بعد. هذه الأزمة ستكون المحرك لحامد ليبدأ رحلته، إنها الاختبار الحقيقي لصلابته وما يعتقد فيه من أفكار، ومدى قدرته على اجتياز الأزمة.
في البداية يبحث في أسرته عمن لديه علاج لليمامة لكنه لا يجد عند جده الكهل ما يفيدها، فيعزم البحث عن دليل أو معين، يبدأ بلقاء الرجل العجوز ذو اللحية.
ويستخدم المؤلف طريقة شيقة ومألوفة في عالم تتبع سير الحكايات وهي طريقة محطات الرحلة التي تتكشف فيها لحظات المجهول تباعًا، وفكرة الرحلة في أدب الأطفال وفي أدب الكبار أيضًا تؤتي ثمارها جيدًا سواء على مستوى الاستمتاع بتكشف الأحداث الواحد تلو الآخر، أو على المستوى الفلسفي إذ أن فكرة الرحلة هي موجز لحياة الإنسان ومعاناته في الحياة، وأن رحلته هي الطريق الذي عليه أن يجتازه ليثبت مهارته وجدارته بالنتيجة التي سيجنيها في نهاية الرحلة.
في بداية الرحلة يؤكد الكاتب سريعًاعلى قيمة هامة وهي رفيق الرحلة إذ يتخلى عن حامد صديقه عامر بينما لا يتخلى عنه صديقه عثمان ويقرر مصاحبته.
يؤكد الكاتب أيضاً على أن الرحلة سبب، بمعنى أن خوض التجربة هو ما يوصلنا إلى نتائجها المرجوة وليس إدراك النتائج نفسها، فنحن لا نعرف شيئًا عن خطواتنا القادمة لذا يقابل العجوز الذي يخبره أنه سيساعده في شفائها، فيعطي اليمامة نبتة في منقارها، ثم يدله على المحطة التالية في الطريق.
وتتوالى أحداث الرواية بتزايد الصعاب مثل صعود الجبل رغبة في الوصول إلى الفتحة المجاورة للكهف، وليصل إلى هناك لابد أن يجتاز عقبة المارد حارس الممر، وحين يعلم المارد أن حامد هو راعي اليمام يساعده بأن يمرره إلى المحطة التالية نحو الجبل، وكذلك يلقي اليمامة في جوفه ثم يخرجها ترفرف وبذلك تكون قد اجتازت مرحلة أخرى من العلاج، لنعيش من خلال مراحل العلاج أجواء سحرية لا تجعل الواقع الذي يعيشه حامد واقعًا عاديًا، بل يدخلنا في عالمه الأسطوري الملائم جدا لعالم الجنوب وسحره وأساطيره، هذا العالم المتداخل مع الواقع في مراحل الرحلة الواقعية المباشرة، إذ تعترض حامد في رحلته كما يقول الكاتب (نباتات الحلف والعاقول بأشواكه الكثيفة المتشعبة) فلا يزال الكاتب يعيشنا في تفاصيل طبيعة الجنوب لكن كان بالأحرى أن يعطينا إشارة أو معلومة سريعة عن هذه النباتات لتكتمل الصورة البصرية لقاريء الرواية.
وفي النهاية يصل حامد إلى المكان المرجو فيجد نبع ماء يغسل فيه اليمامة، وهنا نجد تأكيدًا لفكرة الرمز والدلالة في الرواية، فالماء رمز الخلاص من المكدرات والآلام، وبذلك لا تكون المحطة الأخيرة لشفاء اليمامة هي الخاتمة النمطية لرحلة البحث عن علاج لليمامة لكن الكاتب يفاجئنا على لسان العجوز مخاطبًا حامد :
- من يزرع يحصد يا حامد، ادخلا الكهف الآن لتكافئا.
- وفي اليمامة، أفي الكهف دواؤها؟
- إنها لا تحتاج لدواء، لأنها شفيت منذ وضعت النبتة في منقارها.
فيعتمد الكاتب على عنصر الفاجأة في أن الهدف من الرحلة لم يكن البحث عن دواء لليمامة، بل سيرًا في اتجاه المكافأة على صنيع حامد وصديقه عثمان، ولأن رحلته كانت بهدف البحث عن علاج لليمامة فيكافآن على نبل السير، ويكافئهما العجوز بمكافأة من جنس الطبيعة التي يعيشانها فلا يعطيهما ذهبًا أو ياقوتًا بل أغنام كثيرة لا تعد ولا تحصى، لينهي المؤلف روايته نهاية ملخصة لعبارة من زرع حصد فعليًا لكنه فعل ذلك بطريقة مختلفة وممتعة على مستوى صناعة الأحداث وصياغة الأجواء والأماكن والمواقف.