البلح الأحمر والرمزية في قصة الأطفال
بقلم : محمود يسري حلمي
قصة البلح الأحمر أصدرتها دار الفتى العربي عام 1975 ضمن سلسلة (الأفق الجديد)، وأعيد طبعها في الأعوام 1977، و 1980 ، و1985م. وأعادت نشرها مؤخرًا دار مرح لكتب الأطفال ؛ وحسنًا فعلت بإعادة طبع إصدارات دار الفتى العربي التي كانت رائدة في النشر للأطفال ، ويشهد الجميع لها برقي إصداراتها التي كانت تتم باحترافية عالية ، و بجودتها من حيث النصوص ، والرسوم ، والإخراج ، والطباعة .
المؤلف هو رءوف نظمي ميخائيل عبد المسيح الطبيب المصري المولود في العام 1932 في صعيد مصر . مفكر وناشط سياسي و شاعر . تخرج في كلية الطب ، و في نهاية الستينيات من القرن الماضي تطوع في صفوف منظمة فتح، و نذر حياته في خدمة الثورة الفلسطينية . كتب للأطفال عدة قصص . اشتهر بالاسم الحركي الذي اتخذه لنفسه
( محجوب عمر ) ، وكان يطلق عليه رفاقه لقب ( الحكيم ) .
أما الرسام بهجت عثمان ؛ فهو من مواليد حي بولاق بالقاهرة في السادس من يونيو عام 1931 م . وهو من أشهر رسامي الكاريكاتير السياسي ، ومن أهم رسامي كتب الأطفال توفي في الثالث من يونيو العام 2001م .
تجري الأحداث في زمان قديم بمنطقة سهلية منبسطة بجوار ميناء غزة ؛ تغطيها أشجار النخيل العالية ، ويقيم تحتها أهل قرية لم يعد أحد يذكر اسمها القديم . كانت القرية تبدو أكثر العام ؛ وكأنها ترتدي عمامة خضراء كبيرة ، أما إبان نضج البلح ؛ فإنها تبدو وكأنها ترتدي قبة ذهبية ؛ ندر أن يكون لها مثيل لكثرة ما تحمل أشجار النخيل من بلح أصفر .
هذه فلسطين الحبيبة بما فيها من خير وثراء ! والرمز واضح ومفهوم .
وكان عام لم يمض كبقية الأعوام ؛ ففي أوان نضج البلح ؛ جاء عدد من السفن تحمل قراصنة زعيمهم ذو عين واحدة .
قالوا : ” القبة الذهبية لنا ، القبة لنا والكنوز للرجال ، القبة لمن يستولي عليها “.
أليس هؤلاء هم المستعمرون الذين أتوا إلى فلسطين لكي يستوطنوها ويستولوا على خيراتها ؟
يقول الكاتب : ” مظهرهم ليس كالبحارة العاديين ، ملابسهم خليط من الألوان ، وجوههم متنوعة السمات ، حتى حديثهم متعدد اللغات ” .
أليس هؤلاء هم اليهود المشردون الذين أتوا من كل بقاع الدنيا بعادات ولغات مختلفة؟
ويقول : ” كانت هذه المراكب هي مراكب القراصنة الذين تعودوا سرقة مراكب التجار في قلب البحار، ينفردون بمركب محمل بالبضائع ويذبحون من فوقه من بحارة وتجار، وينهبون ما يحمل من بضائع وأموال ، ثم يُغرقون المركب .” .
أليس هذا ما عرفناه عن سلوك وطبائع اليهود عبر تاريخهم ؟
ويقول أيضًا : ” نزل رسول القرصان على البر ، وصاح في أهل القرية : سلموا القبة الذهبية لزعيم القراصنة وإلا هدمنا قريتكم فوق رؤوسكم ) ” .
ربما كانت هذه إشارة إلى وعد بلفور .
وعندما لوح رسول القرصان بسكينه مهددًا ، وتقدم خطوة إلى الأمام ، فوجئ بالحجارة تنهال عليه وعلى رفاقه. كان شبان القرية قد تجمعوا من بعيد ، وبدأوا يقذفون القرصان ومن معه بالحجارة .
أليس هذا دأب الفلسطينيين من اليوم الأول في المقاومة وعدم الاستسلام ؟
وعندما اجتمع أهل القرية ، استقر الرأي على مقاومة الغزو وعدم الاستسلام . ومع توالي القصف من السفن عدة أيام ؛ اشتعلت الحرائق هنا وهناك ، وتهدمت البيوت وسقط على الأرض نخيل كثير ، واستشهد عدد من الرجال والنساء والأطفال ، عدا من جرح وأسعف ونقل في الليل إلى قرى مجاورة . وبدأ البعض يتساءل : ” إلى متى نستطيع الصمود ” .
إنه المشهد المتكرر الذي نعيشه كل يوم و نراه حتى يومنا هذا !
يقول الكاتب : “في المساء اجتمع أهل القرية ؛ كانت علامات الإرهاق بادية على الوجوه ، والقلق على المصير ، سؤال يلح على الكبير والصغير ” .
ولم ينس الكاتب أن يشير إلى أن اجتماع أهل القرية وتشاورهم جعلهم يصلون إلى حيلة وحل ناجع لمقاومة الغزاة ؛ ما جعل زعيم القراصنة يفقد صوابه . وهذا كما لو كان دعوة من الكاتب للفلسطينيين أن يتجمعوا ويتحدوا ويتشاورا لكي يستطيعوا حل قضيتهم .
ويصف الكاتب أحداث المعركة وما دار فيها في مشهد بارع الوصف بما فسره من تفاصيل وأحداث ؛ ما يجعل القارئ يعايشها كما لو كان مشاركًا فيها .
ويقول : ” خلال ساعات المعركة سالت دماء المصابين والشهداء فوق البلح الأصفر فلونته ، وصبغت رؤوس النخيل باللون الأحمر ” .
ما أجملها صورة ! لقد رسم الكاتب لوحة استعارية حقق بالمجاز فيها جمالًا وأثرًا كبيرًا في وجدان القارئ .
وبحسه الوطني والثوري يجعل أهل القرية ينتصرون في النهاية ؛ فيقول على لسان زعيم القراصنة : ” هذه القرية لا يمكن أن تهزم ، كانت لهم في البداية قبة ذهبية ، ثم جعلوا مكانها شمسًا تعمي الأبصار ، ثم حولوها إلى عمامة حمراء ضخمة ، واستطاعوا الوصول إلينا وإشعال النار في سفننا ؛ هؤلاء لا يمكن أن يهزموا ” .
لعلها نبوءة الكاتب و تمنياته واستشرافه للمستقبل .
ويختتم الكاتب قصته ؛ قائلًا : ” ومنذ ذلك الوقت وأشجار النخيل تثمر بلحًا أحمر مع البلح الأصفر ؛ تكريمًا للشهداء الذين قدموا حياتهم دفاعًا عن القرية وأهلها ونخيلها. ومنذ ذلك التاريخ أصبح اسم القرية ( دير البلح )”.
لقد نجح الكاتب في استخدام الرمزية التي بنى عليها عناصر قصته ، عندما استهل قصته قائلًا : ” من قديم الزمان ؛ كانت فلسطين على الدوام تستقبل التجار والزائرين والحجاج . ” ؛ إذ جعل هذا الاستهلال مفتاحًا يعين القارئ في فهم رموز قصته . فالقرية هي فلسطين ، وأهلها هم شعب فلسطين ، والقراصنة هم اليهود الصهاينة .
لقد استخدم الكاتب الرمزية – وهي تمثل إشكالية وصعوبة في الكتابة للأطفال – ببراعة فنية ؛ حكت لنا تاريخ شعب ظلم واضطهد . ولقد كانت رموزه واضحة لا إلغاز فيها ؛ يستطيع القارئ صغيرًا وكبيرًا أن يدركها دون عناء .
وقصة ( البلح الأحمر ) – على قصرها – تكاد تحكي قصة النكبة ؛ في لغة سلسة وصياغة سهلة وانسيابية في السرد تأخذ القارئ إلى عالم الأحداث وتجعله يتعاطف مع الأشخاص والقضية على حد سواء .
أما الرسوم ؛ فقد صيغت بالأسلوب المتميز للفنان بهجت عثمان ؛ وهو الأسلوب الذي لا تخطئه عين . إنك لست في حاجة لأن تقرأ اسم بهجت عثمان لكي تتعرف رسومه؛ فهو في رسمه لا يشبه أحدًا ولا يشبهه أحد ؛ وهذه سمة الفنان الكبير العبقري. جاءت الرسوم مميزة بخطوطها وتكويناتها وألوانها ؛ مكملة للنص ومضيفة إليه جمالًا
و متناسجة مع أحداثه .وإخراج الكتاب _ على حد علمي – الذي وضعه الفنان الكبير محيي الدين اللباد _ وإن كان لم يذكر في الترويسة ؛ كان موفقًا في كل عناصره أيَّما توفيق .