توفيق الحكيم .. عندما كتب للأطفال
بقلم : محمود يسري حلمي
عثرت مؤخرًا على كتاب ( حكايات توفيق الحكيم للصبيان والبنات)، ولم أكن أعرف أن توفيق الحكيم كان قد كتب للأطفال . اقتنيت الكتاب من فوري ، وأحسست أني وجدت كنزًا ثمينًا، واعتراني فضول شديد لمعرفة ماذا كتب هذا العملاق للأطفال ، وماذا كان دافعه لذلك .
اكتشفت من ترويسة الكتاب أنه صدر في العام 1977 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ؛ برسوم الفنان مصطفى حسين ، وأن دار الشروق أصدرت منه ثلاث طبعات : الأولى عام 2005 ، والثانية عام 2007، والثالثة التي اقتنيت نسخة منها عام 2019 . ولقد صدر الكتاب برسوم وإخراج الفنان الكبير حلمي التوني .
يتضمن الكتاب ثلاث قصص في اثنتين وثلاثين صفحة من القطع الكبير ، وفي غلاف مقوى . أما عناوين القصص فهي : ( العصفور والإنسان ) ، و( المؤمن والشيطان ) ، و ( الله وسؤال الحيران ). وللوهلة الأولى شعرت أنها تطرح أفكارًا عميقة ذات بعد فلسفي ، لكني أرجأت الحكم إلى ما بعد القراءة.
دعنا نكتشف ما الأمر لنتبين ماذا أراد توفيق الحكيم تقديمه للأطفال !
بدأ الكتاب بكلمة استهلها بسؤال : لماذا أكتب للأطفال ؟ وكانت إجابته : ” إن الفكرة عندي ليست أن أكتب لهم ما يخلب عقولهم ، ولكن أن أجعلهم يدركون ما في عقلي ؛ فلقد خاطبت بحكاياتي الكبار ، وأخاطب بها اليوم الصغار ؛ فإذا تم ذلك ، فهم لنا إذن أنداد ” .
لقد أصاب الحكيم بأن أراد جعل الصغار أندادًا لنا ؛ فهم بالفعل لنا أنداد ؛ بل إننا نجعل لهم الامتياز علينا ونفضلهم على أنفسنا ، ونعتبرهم فلذات أكبادنا . وإن كنت أتعجب من أن الفكرة لديه ليست أن يكتب لهم ما يخلب عقولهم ، وأظن أن كتاب وكاتبات الأطفال جميعهم حرصاء على أن يكتبوا للأطفال ما يخلب عقولهم ويدهشهم ويحفز خيالاتهم . و يزداد عجبي ويثير دهشتي أنه يريد أن يدركوا ما في عقله . أوليس في هذا نوع من الأنانية و الذاتية المحضة ؟
والكتاب مصحوب بتسجيل صوتي للقصص بصوت الكاتب . و حين يتساءل في كلمته الاستهلالية : ” ولماذا أخاطبهم بصوتي ؟ ” ، يجيب : ” لأن المقصد عندي هو أن أتيح لهم الاحتفاظ بوثيقة أدبية تجعلهم يقولون في القرن القادم وقد بلغوا الثلاثين : نحن نحتفظ بصوت كاتب كان معروفًا في القرن الماضي ” . و يستطرد : ” ولقد حرصت على النطق بالعربية الصحيحة حتى يشب الأطفال على سماع السليم في اللغة ؛ فتضاف فائدة إلى فائدة “.
لقد أصاب فيما عبر عنه بخصوص اللغة السليمة ، لكن دافعه بالنسبة للاحتفاظ بالوثيقة كان ذاتيًّا محضًا ؛ فسواء بالنسبة لدافع الكتابة أو بالنسبة لرغبته في احتفاظ الأطفال بصوته أظنه يوحي بأنه مولع بأن يخلد ؛ وهو أمر ذاتي أيضًا .
***
القصة الأولى هي ( العصفور والإنسان ) ؛ يستهلها مخاطبًا الأطفال قائلًا : ” يا أطفالي الصغار .. أحب أن أحكي لكم حكاية أرجو أن تعجبكم ؛ فاستمعوا لها ” . ويبدو أنه كان مهتمًّا أكثر بالحكي الصوتي أكثر من أن يقرأ الأطفال بأنفسهم ، لكن هل كانت هناك ضرورة لهذه المخاطبة الفوقية ؛ إذ كان من الممكن – كما هو معتاد – أن يبدأ القصة مباشرة .
وشخصيات القصة ثلاث ؛ هي : عصفور صغير و أبوه والإنسان .
يسأل العصفور الصغير أباه : ” من خير المخلوقات في الدنيا ؟ ألسنا نحن العصافير خير المخلوقات ؟ ” . فيخبره الأب أنه ليس من حقهم أن يقولوا ذلك . وعندما يسأل الابن : لماذا ؟يجيبه بأن الإنسان يقول عن نفسه إنه أحسن المخلوقات . فيستفسر الصغير : ” ومن هو الإنسان ؟ ” . فيخبره الأب : ” إنه ذلك الذي يرمي عشنا بالحجارة”. ويستمر الصغير في طرح تساؤلاته قائلًا :
” أهو أحسن منا ؟ أهو أسعد منا ؟ ” . ويجيبه الأب : ” ربما كان أحسن منا ، ولكنه ليس أسعد منا”. ويسأل الصغير : ” ولماذا ليس أسعد منا ؟ ” ، فيجيب الأب بأن في جوفه شوكة تشكه وتعذبه وضعها بيده في جوفه . ولأن الصغير لا يعرف هذه الشوكة ؛ يخبره الأب بأن اسمها الطمع . ويسأل الصغير : ” وما هو الطمع ؟ ” .
ويقرر الأب أن يريه بعينه . وعندما يظهر رجل ، يتعمدالأب إيقاع نفسه في يده ، ويطلب من ابنه أن يراقب ما يحدث .
يقع العصفور الأب قرب الرجل فيصطاده ، ويفرح به ، ويقبض عليه بأصابعه . ويدور حوار بينهما .
يسأل العصفور : ” ماذا تريد أن تصنع بي ؟ ” .
- أذبحك وآكل لحمك .
- وهل لحمي يشبعك ؟ إن لحمي قليل .
- قليل ، لكنه لذيذ !
يمكر العصفور الأب على الإنسان ويغريه بأن يعطيه ما هو أنفع له من لحمه . ويخبره بأنه سيعطيه ثلاث حكم ينال بها خيرًا كثيرًا ، ويشترط عليه ثلاثة شروط . الحكمة الأولى يعلمه إياها وهو في يده . والحكمة الثانية يعلمه إياها إذا أطلقه . والثالثة يعلمه إياها وهو يطير ويصير فوق الشجرة .
يطمع الرجل في الخير الكثير الذي يناله إذا عرف الحكم الثلاث ؛ فيقبل الشروط .
كانت الحكمة الأولى هي : لا تتحسر على ما فاتك ! ويطلق الرجل العصفور بحسب الشروط . وتكون الحكمة الثانية هي : لا تصدق مالا يمكن أن يكون . ويطير العصفور إلى أعلى الشجرة وهو يصيح : ” أيها الإنسان المغفل ؛ لو كنت ذبحتني لأخرجت من بطني جوهرة كبيرة غالية وزنها ثلاثون مثقالًا ” . يعض الرجل على شفتيه من الندم عضة أسالت الدم ، وتحسر حسرة شديدة .
أما عن الحكمة الثالثة ؛ فيقول له العصفور الماكر ؛ وهو باسم ساخر : ” أيها الإنسان الطماع ؛ طمعك أعماك فنسيت الحكمتين الأولى والثانية ؛ فكيف أخبرك بالثالثة . ألم أقل لك : لا تتحسر على ما فات ، ولا تصدق ما لا يمكن أن يكون ؟ إن لحمي وعظمي وريشي لا يصل في الوزن إلى عشرين مثقالًا ، فكيف تكون في بطني جوهرة وزنها أكثر من عشرين ” .
هكذا استطاع العصفور أن يتلاعب بال
إنسان .
وهنا قال الصغير : ” كيف صدق الإنسان ما لا يمكن أن يكون ؛ وهو أن في بطنك جوهرة وزنها أكبر من وزنك ! ” .
فيقول العصفور الأب : ” الطمع يا بني .. طمع الإنسان ” .
***
والقصة الثانية بعنوان ( المؤمن والشيطان ) . الشخصيات اثنتان : المؤمن والشيطان . وتدور أحداثها في بلاد بعيدة بها جماعة من الناس نبتت عندهم شجرة كبيرة ضخمة ؛ كانوا يجتمعون عندها دائمًا ويجلسون تحتها إلى أن عبدوها وجعلوها ربهم . وعندما سمع رجل مؤمن بذلك ، غضب وحمل فأسه وذهب ليقطع هذه الشجرة حتى لا يعبدها الناس الكفار . وعندما اقترب من الشجرة ليقطعها ، ظهر الشيطان الذي يريد الشر للإنسان . يحاول الشيطان منع الرجل المؤمن من قطع الشجرة . ويدور حوار بينهما لم يسفر عن شيء ، وأصر الرجل على قطع الشجرة ؛ فأمسك الشيطان بخناقه ، وقبض المؤمن على قرنه وتصارعا طويلًا إلى أن انتهت المعركة بانتصار المؤمن ؛ فقد طرح الشيطان على الأرض وجلس على صدره . ويقول الشيطان بصوت مخنوق : ” ماكنت أحسبك بهذه القوة .. اتركني وافعل ما تريد . ” .
رجع المؤمن إلى بيته ، واستراح ليلته . وفي اليوم التالي حمل فأسه وذهب لقطع الشجرة ، وإذا بالشيطان يخرج له محاولًا منعه . ويدور حوار بينهما ينتهي بأن يمسك الشيطان بخناق الرجل ويمسك الرجل بقرن الشيطان . يتقاتلان إلى أن يسقط الشيطان ؛ مثلما حدث في المرة الماضية ، ويعترف الشيطان بهزيمته ، ويقول : “إن قوتك عجيبة . اتركني وافعل ما تريد ” .
في المرة الثالثة ؛ يحتال الشيطان على الرجل ، ويغريه بأن يعطيه كل يوم دينارين من الذهب . تنطلي الحيلة على الرجل ويتعاهدان على ذلك .
صار المؤمن يستيقظ كل صباح ويدس يده تحت مخدته ؛ فتخرج بدينارين من الذهب . ومر شهر على هذه الحال ؛ إلى أن جاء يوم خرجت فيه يده فارغة بدون الدينارين ؛ فعرف أن الشيطان قطع عنه الذهب ؛ فغضب ونهض فأخذ فأسه ، وراح ليقطع الشجرة .
يعترضه الشيطان في الطريق ، ويدور بينهما حوار يسخر منه الشيطان ويهزأ به . ينقض المؤمن على الشيطان ويقبض على قرنه ويتصارعان للحظة ، وإذا بالمعركة تنتهي بسقوط المؤمن تحت حافر الشيطان ؛ فيقول له المؤمن : ” أخبرني أنت يا شيطان كيف تغلبت علي ؟ ” .
يقول له الشيطان : ” لما غضبت لربك وقاتلت لله غلبتني . لما صارعت لعقيدتك صرعتني ، ولما صارعت لمنفعتك صرعتك ” .
***
أما القصة الثالثة ؛ فكانت بعنوان ( الله وسؤال الحيران ) . ولقد كان الحكيم أصدر مجموعة قصص فلسفية عام 1953 عن مكتبة مصر تحتوي ثماني عشرة قصة بعنوان ( أرني الله ) . استهل المجموعة بقصة تحمل عنوان الكتاب ؛ أرى أنه عالجها – فيما بعد – بالفكرة نفسها و صاغها للأطفال ؛ مع بعض التعديل .
وشخصيات القصة طفل يطلب من أبيه طلبًا ليس مثل الطلبات التي اعتاد الأبناء أن يطلبوها من الآباء ؛ وهو طفل ذكي فصيح اللسان ، والأب رجل طيب صافي القلب ؛ اعتاد أن يجلس مع ابنه يتحادثان كأنهما صديقان ؛ كأن فارق السن بينهما غير موجود . وفي نهاية القصة يكون الشيخ العجوز ثالث الشخصيات .
يطلب الابن من أبيه : ” أريد رؤية الله .. أرني الله يا أبي ” .
- كيف أريك ما لم أره أنا نفسي !
- وهل أنت لم تره ؟!
- لا .. لم أره أبدًا .
- ولماذا يا أبي لم تره ؟
- لأني لم أفكر في ذلك .
- وإذا طلبت منك يا أبي أن تذهب لتراه ، وبعد ذلك تأتي وتريني إياه .
- سأفعل يا بني .. سأذهب .
ذهب الأب يطوف بالمدينة ، ويسأل الناس : ” هل فيكم من يدلني أين أرى الله ؟ ” .
لم يلتفت إليه الناس إلى أن فهم أحدهم قصده ؛ فنصحه أن يذهب إلى رجال الدين ويسألهم .
وعندما ذهب إليهم قالوا له كلامًا كثيرًا مما في الكتب ؛ لم يفهم منه شيئًا .
وأخيرًا مر بشيخ طيب ؛ قال له : ” اذهب إلى طرف المدينة تجد عجوزًا مؤمنًا من الأولياء الصالحين لا يسأل الله شيئًا إلا استجاب له ؛ فربما تجد عنده طلبك .” .
ذهب الأب إلى الرجل العجوز ، وسأله أن يرى الله ؛ فقال له العجوز المؤمن بصوته العميق اللطيف : ” أيها الرجل .. إن الله لا يمكن أن نراه بعيوننا الضعيفة ” . وطلب منه أن ينظر إلى الشمس. يكتشف الأب أن نور الشمس حارق سيعمي بصره . ومع استمرار التحديق لم يعد يرى الشمس . فيخبره العجوز المؤمن : ” إن نور الشمس الذي حرق عينك هو شيء قليل ضئيل بالنسبة إلى نور الله الذي خلق هذه الشمس وملايين الشموس والنجوم ، وإذا كانت عينك احترقت من نور هذه الشمس الصغيرة ، فكيف إذا نظرت إلى نور الله خالق كل الشموس ” .
يقر الأب أنه لا يمكن لعين بشر أن ترى نور الله ، ويتساءل : ” ألا توجد طريقة أخرى غير العيون البشرية يمكن بها أن نرى الله ؟ ” . ويخبره العجوز أن الطريقة الأخرى هي الإحساس ؛ فالأعمى يحس بوجود شخص بقربه بدون أن يراه .
وعندما يسأل : ” كيف يمكن أن أحس بوجود الله بقربي ؟ .
- إذا فزت بمحبته فإنه يقترب منك ، ويمكنك أن تحس بقربه ” .
وعندما يسأل : ” وكيف أعرف أن الله اقترب مني ؟ .
- بإحساسك .. تحس بنوره بغير أن تراه . ألست تحس بنور الشمس وأنت مغمض العينين . هكذا تحس بنور الله في صدرك وهو يقترب منك بدون أن تراه ” . ويخبره أنه يحس بنور الله في صدره ، إذا اقترب منه ، وأنه يقترب منه ، عندما يفوز بمحبته .
يسجد الأب ويعفر وجهه بالتراب ، ويأخذ يد العجوز ويقبلها ، ويتوسل إليه أن يسأل الله أن يرزقه محبته . فيخبره العجوز: ” إن الله لا يعطي محبته إلا بشرط ” ، كما يخبره بأن الشرط هو :
” العمل الطيب النافع للناس . إن الله هو الخير ، وهو يحب من يعمل الخير . الخير هو العمل الطيب للغير ، وبه تحس الانشراح في صدرك لأن النور دخل في قلبك .. نور الله . وعندما يدخل هذا النور قلبك ؛ فاعلم أن الله قريب منك ” .
يعود الأب إلى ابنه الذي يسأله :
- هل رأيت الله يا أبي ؟
- عرفت الطريق إليه .. إلى محبته .
- وهل ستأخذني إليه ؟
- بل هو الذي سيأتي إليك وتحس بقربه منك .
- متى ؟ .. متى يا أبي ؟
- عندما تفعل ما يحبه ، تحس بقربه .
- وما هو الذي يحبه لأفعله حالًا ؟
- العمل الطيب الذي يحبه الله ، ويجعله يقترب منا بنوره الذي نحسه في قلبنا .
- وعندما نحس هذا النور في قلبنا ، نعرف أن الله اقترب منا .
- نعم .. وأنه موجود معنا .
***
من الواضح أن الحكيم غلبته طبيعته التي عهدناها فيه . إن غلبة الفكر على كتابته التي اتسمت بالذهنية هي التي صبغت كتابته للأطفال ؛ مثلما كانت مع الكتابة للكبار . إنه يطرح أسئلة كبرى وقضايا كلية ؛ وربما وجودية ذات طابع فلسفي . إن هذا يتأكد بالدليل القاطع من لجوئه إلى إعادة صياغة قصة ( أرني الله ) الموجهة للكبار ؛ مع بعض التعديل لتقديمها للصغار؛ مع الحفاظ على الفكرة . وبالطبع لا تصلح كل الأفكار التي تشغلنا لأن نقدمها للأطفال؛ فهم لهم عالمهم الخاص ، وخيالاتهم ، واهتماماتهم ، كما تحكم إدراكهم المرحلة العمرية التي ينضوون فيها بحدود لا تتيح لهم إدراك الكليات والأفكار الذهنية ذات العمق الفلسفي .
ففي القصة الأولى ؛ يجعل العصفور الصغير يتساءل عن أي المخلوقات أفضل ، وهذا سؤال من الصعب أن يطرأ على لسان الصغار . وبالرغم من توفيقه في أن جعل إجابة الأب على الصغير بشكل عملي ؛ فإنه جعل العصفور صاحب حكمة ، واستصغر الإنسان وجعله مغفلًا ؛ في مقابلة ظالمة بين عقل العصفور وعقل الإنسان . أليس القول المأثور عندما نهزأ من إنسان ” أجسام البغال وأحلام العصافير ! ” . لو أنه جعل الشخص الذي حاوره العصفور واحدًا من البشر ، لكان الأمر مقبولًا ، لكنه عمم الأمر وأطلقه على عموم الإنسان . لا شك أن من البشر من هم طماعون ، لكننا يجب ألا نسحب الأمر على جنس الإنسان الذي تميز بالعقل وكرمه الله وفضله على جميع المخلوقات .
وفي القصة الثانية ؛ اصطنع صراعًا بين الإنسان والشيطان ؛ وهي قضية لا تشغل بال الأطفال أيضًا . ولقد نصر الشيطان على الإنسان بسبب طمعه ، وجعل الإنسان يضحي بعقيدته وما يؤمن به؛ طمعًا في المال الذي أغراه به الشيطان .
وفي القصة الثالثة ؛ يحدث الأب ولده حديثًا عميقًا وروحيًّا أشبه بكلام وأفكار المتصوفة ؛ هذا الكلام وتلك الأفكار التي قد تغمض على الكبار الناضجين ؛ فكيف للأطفال أن يدركوا مالا يدرك إلا من خلال المعرفة الإشراقية التي تتولد بالإدراك القلبي .
وقد يطرح الأطفال أحيانًا أسئلة كبرى ؛ حتى إن الإجابة عنها تكون صعبة ؛ فإذا انبرينا للإجابة عنها يجب أن نجد السبيل الواضح السهل الذي يمكن أن يوائم إدراك الصغار .
***
إن اضطلاع كاتب كبير بالكتابة للأطفال لحدث عظيم ، لكن شريطة أن تكون هذه الكتابة محققة لشروط ومواصفات الكتابة للأطفال . وعندما كتب للأطفال توفيق الحكيم ؛ وهو صاحب القامة والقيمة العظيمة ، قوبل هذا الحدث باحتفاء شديد وتقدير عال من كل الكتاب والمثقفين في مصر . ربما كان فرح الفارحين به تقديرًا لمكانته ؛ دون التفكير في مغبة هذا العمل ، وربما كان بسبب عدم المعرفة اللازمة للاضطلاع بهذا الأمر .
ولا يستطيع أحد أن ينكر المكانة العالية التي اعتلاها توفيق الحكيم بشموخ ؛ سطر اسمه في تاريخ الأدب العربي بحروف مضيئة ، لكنه لم يكن مضطرًّا لأن يتصدى للكتابة للأطفال ؛ وهي ذات متطلبات وشروط مختلفة كل الاختلاف عن الكتابة للكبار .
***
ولقد صاغ الحكيم القصص الثلاث بلغة بسيطة واضحة تناسب الأطفال ، إذا فهموا المغزى الذي أراده في قصصه ذات الأفكار العميقة . ولقد استخدم في القصة الأولى لفظة ( يُصحِّيها ) التي تستخدم في اللهجة العامية بمعنى ( يوقظها ) .
يقول : ” وتخرج من أعشاشها في لحظة واحدة ؛ كأنها سمعت جرسًا خفيًّا من داخل نفسها
( يصحيها ) من النوم ” . فصيغة ( يُصحِّي ) مضارع ( صحَّا ) ليست موجودة في المعجم ، والصيغة التي تعبر عن المعنى الذي أراده الكاتب هي ( أصحى ) ( يُصحي ) بمعنى ( أيقظ ) ؛ كما جاء في المعجم. وهنا افترضت أحد احتمالين : إما أن الكاتب أثبتها في النص بالمعنى المعجمى ، لكن المحرر جاء بها مشكولة هكذا ، وإما أن الكاتب أراد أن ينحت صيغة جديدة يضيفها إلى المعجم العربي ، لكني حين استمعت إلى النص المؤدى من الكاتب ، أعفيت المحرر من الخطأ .
ولقد راوح الكاتب بين لفظة ( الشيطان ) ولفظة ( إبليس ) خلال نص القصة الثالثة . وفي المعجم ( إبليس : رأس الشياطين ) ؛ فإذن ثمة فرق في دقة المعنى قد يربك الأطفال حين يقرأون .
ولم يكن دقيقًا في صياغته حين استعمل ( أبدًا ) التي يشيع استخدامها في مكان ( قط ) .
***
أما الرسوم والإخراج الداخلي ؛ فلقد أبدع الفنان الكبير حلمي التوني فيها أيما إبداع . الغلاف جاذب للعين بألوانه المبهجة ، و يتصدره رسم لتوفيق الحكيم محوطًا بعدد من الأطفال يحكي لهم قصصه وعلى رأسه عصفور . ووضع اللوحة المرسومة داخل إطار مزركش بالزهور . وكان العنوان بحجم واضح وألوان جذابة .
أما عن التصميم الداخلي ؛ فقد جعل العناوين باللون الأحمر وبحجم مناسب ، وكل عنوان في خلفيته وحدة ( موتيفة ) باللون الرمادي تشمل الشخصيات الرئيسة في القصة . وقد جعل أرقام الصفحات باللون الرمادي بحجم كبير في وسط الهامش الأيمن للصفحة ، وتحتها عناوين القصص باللون الرمادي أيضًا . أما في الصفحات اليسرى 9 و 19 و 25 و29 التي اشتملت على نصوص ؛ فقد وضعت أرقام الصفحات بالطريقة نفسها في الهامش الأيسر .
خصص الصفحة اليمنى للنص ، والصفحة اليسرى لرسم يقابله في معظم الصفحات .
أما الرسوم ؛ فقد جاءت شبه كاريكاتورية ؛ فيها درجة من التجريد بخطوط محددة ، والألوان صريحة ومتناسقة .
والمتن يعيبه صغر البنط ( حجم الخط ) ، وعدم استخدام الياء المنقوطة ، واللجوء إلى النقطتين ( .. ) بديلًا لعلامات الترقيم في مواضع كثيرة .