إعداد/ أحمد طلب
في كل مكان في هذا العالم من الريف إلى المدن إلى الجبال والصحاري تختلف أساليب تنشئة الأطفال باختلاف المناطق الجغرافيةوما تحويه من ظروف بيئية وما تحتويه من عادات وتقاليد ثمتل الإطار القيمي للمجتمعات .وهو ما دفع مجموعة من الباحثين متعددي الجنسيات لتقديم دراستهم حول الصفات التي يقول الآباء والأمهات في دول مختلفة من العالم إنهم يرغبون في أن يكتسبها أطفالهم.وأظهرت الدراسة اختلافات مثيرة للاهتمام.
في هولندا
ركزوا على أن يتحلى الأطفال بـ “السكون والهدوء والنظافة والقدرة على التصرف بشكل دقيق ومنظم ومتسق“.
أما إيطاليا
ففضلوا أن يكون أطفالهم معتدلي المزاج وقادرين على الاتصاف بالتوازن، ومحبوبين ممن حولهم.
وكان الآباء والأمهات الأمريكيون الذين شملتهم الدراسة أكثر ميلًا إلى القول إنهم يريدون أن يكون أطفالهم “أذكياء” أو “متفوقين من الناحية الإدراكية“.وتشير هذه التفضيلات إلى تحول ما قد طرأ على الأسلوب الذي يربي به الأمريكيون أبناءهم، مقارنة بما كان عليه الحال في الماضي.
ففي الثمانينيات، كان انشغال الوالديْن في أعمالهما يجعلهما يتركان الأطفال وحدهم في المنزل، أو يدفعهما لمنحهم المفاتيح، لكي يتسنى لهم بعد العودة من المدرسة، دخول منزل خاوٍ من الأب والأم، وهو ما أدى إلى إطلاق مصطلح “جيل أطفال المفاتيح” على الأبناء في هذه الحقبة.
وبعد ذلك ظهر جيل آخر، سُمي “جيل أطفال الهليكوبتر”، في إشارة إلى الأطفال، الذين يحوم الآباء والأمهات حولهم، ويبقون بالقرب منهم كالطائرات المروحية طوال الوقت، كناية عن العناية والاهتمام.
أما اليوم فيُطلق على الجيل الحالي من الأطفال الأمريكيين اسم “أطفال الصوبة الزجاجية”، في إشارة إلى حرص آبائهم وأمهاتهم على تعليمهم بوتيرة أسرع ومنحهم قدرًا أكبر من العلم والمعرفة يفوق مرحلتهم العمرية، وكأنهم نباتات يتعهدونها بالرعاية المكثفة في صوبة زجاجية.
ومع أن نمط التربية في أوروبا كان – تقليديًا – أقل صرامة، من ذاك السائد في الولايات المتحدة، فإنه يشهد تغيرات هو الآخر في الوقت الحاضر، في ضوء تبني المزيد من الآباء والأمهات الأوروبيين، أسلوب التنشئة المكثف والصارم الشائع بين نظرائهم الأمريكيين.
وقد يعود ذلك جزئيًا إلى الخشية من تزايد التفاوت في المستوى بين الأطفال في أوروبا والولايات المتحدة. كما قد تلعب النصائح التي يُسديها الكثير من الخبراء وتحض على تبني أساليب التربية الأمريكية، دورًا كذلك في هذا الصدد. وهنا يمكننا أن نتساءل، هل ستمضي أوروبا دومًا على درب الولايات المتحدة في أي مجال تتبوأ فيه الأخيرة الريادة؟ وهل تبدو أساليب التربية والتنشئة التي يتبعها الآباء والأمهات الأمريكيون قابلة للاستمرار بشكل دائم أم لا؟
يقول باتريك إيشيزوكا، أستاذ علم الاجتماع بجامعة واشنطن في مدينة سانت لويس
“إن الأسلوب الأمريكي في تربية الأطفال، يوجب على الوالدين تكريس “قدر كبير من الوقت والمال” مقارنة بأساليب التنشئة الأخرى. ويتطلب هذا الأسلوب تنظيم وقت الأطفال، لتمكينهم من ممارسة أنشطة مختلفة لا ترتبط بمناهجهم الدراسية، والسعي لتلبية احتياجاتهم وإبراز مواهبهم، والدفاع عنها كذلك.“
ويضيف إيشيزوكا – الذي درس هذا الأسلوب في التربية تحديدًا – أنه يمكن وصف هذه الطريقة في تنشئة الصغار بأنها “النموذج الثقافي المهيمن على صعيد التربية في الولايات المتحدة حاليًا”
المستوى الاقتصادي لا يشكل سوى جانبًا واحدًا فقط، من جوانب اللغز المتعلق بتحديد الأسلوب الأمثل لتربية الأطفال.
تحت عنوان “طفولة غير متكافئة”، أصدرت عالمة الاجتماع آنيت لورو كتابها والذي تبنت فيه رأيها بأن هناك تشابكًا وثيقًا بين الطبقة الاجتماعية التي ينتمي لها المرء وأسلوب تنشئة الأبناء الذي تتبعه. فالمنتمون للطبقة الوسطى، يتبعون طريقة أقرب إلى الأسلوب المكثف في التربية، بينما يتبنى نظراؤهم الأقل دخلًا، أسلوب تنشئة يميل إلى الإحجام بشكل أكبر عن التدخل في شؤون أطفالهم.
أما ليندا كويرك، أستاذة كندية في علم الاجتماع بجامعة ويلفريد لورير – والتي تدرس مسائل متعلقة بكيفية إسداء النصح للآباء والأمهات بشأن تربية صغارهم – تقول إن التمييز بين الشرائح التي تطبق أسلوب التربية المكثف وتلك التي لا تطبقه، قد يكون غير واضح في ضوء أن هذا النمط في التنشئة “يتم تبنيه الآن من جانب مجموعات مختلفة، على نحو لم يكنْ يحدث من قبل”.
من جهة أخرى، وجدت دراسة سويدية أن بعض التوجهات العابرة لحدود الطبقات الاجتماعية، التي يتشاطرها أولياء الأمور بشأن انخراط أبنائهم في أنشطة لا تتصل بالمناهج الدراسية، تفيد بأن رياض الأطفال تلعب دورًا في تشكيل وجهات نظر الآباء والأمهات بشأن مسألة تنشئة الأطفال، بما في ذلك تبنيهم لممارسات الأسلوب المكثف في التربية.
وأشارت الدراسة إلى أن “أطفال السويد يقضون معظم أيام الأسبوع في المؤسسات التي تتولى رعاية الأطفال (مثل دور الحضانة وغيرها). ولذا يتعرضون وآباؤهم وأمهاتهم، لقيم ومُثُل تتعلق بالتربية والطفولة، ينقلها لهم المعلمون ذوو المؤهلات التعليمية العليا، من العاملين في رياض الأطفال“.
وقالت الدراسة كذلك إن بعض أولياء الأمور المنتمين للطبقة العاملة، ربما يسجلون أسماء أطفالهم في قوائم المشاركين في الأنشطة الإضافية غير ذات الصلة بالدراسة، وذلك حتى لا يُنظر إليهم على أنهم يتبعون نهجًا مستهترًا في التربية.
ويلفت خبراء آخرون النظر إلى العدد الهائل من الكتب والمدونات والمقالات المتوافرة الآن، التي تتضمن نصائح للآباء والأمهات بشأن أساليب التربية. وتقول ليندا كويرك في هذا الشأن “عندما تنظر إلى كتب النصائح الموجودة منذ أمد بعيد مثل ما الذي تتوقعه حينما تكون بانتظار إنجاب طفل، ستجد أنها تزداد طولًا بمرور الوقت، وهو ما يشير إلى أن النصائح المقدمة للآباء والأمهات على هذا الصعيد في تزايد وانتشار“.
وتعتقد هذه الباحثة الكندية أن نصائح الخبراء في هذا الصدد، تؤثر حتى في أولياء الأمور الذين يتشككون في مدى قيمتها. وتوضح ذلك بالقول “ينظر هؤلاء إلى تلك النصائح ويقولون ‘هذا ما يفعله الناس الآخرون إذًا في مثل هذه المواقف، لذا من المهم أن يُنظر إلى نصائح مثل هذه، كجزء من السياق الذي يربي فيه الآباء والأمهات أطفالهم“.
لكن اتباع أسلوب التربية المكثف السائد في الولايات المتحدة والآخذ في الانتشار في أوروبا، لا يخلو من مشكلات، تتأثر بها الدول والآباء والأمهات والأطفال أيضًا. ومن بينها، تفاقم التفاوت الاقتصادي في المجتمع. ففي الستينيات مثلًا؛ عندما كان التركيز أقل على تطوير مهارات الأطفال واهتماماتهم، تساوى أولياء الأمور بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، على صعيد ما يقضونه مع أطفالهم من وقت وما ينفقونه عليهم من مال، حسبما يقول أستاذ علم الاجتماع باتريك إيشيزوكا.
بجانب ذلك، يمكن أن يؤثر اللجوء لهذا الأسلوب في تنشئة الأطفال بشكل سلبي على الوالدين نفسيهما، خاصة على الأمهات اللواتي لا زلن يتحملن العبء الأكبر فيما يتعلق بالقيام بالأنشطة المرتبطة برعاية الأطفال. وتشير دراسة أجراها ثلاثة باحثين أمريكيين عام 2012 – ويتم الاستشهاد بها كثيرًا في الأوساط الأكاديمية – إلى أنه كلما كان أسلوب تربية الأطفال مكثفًا بشكل أكبر، كانت الأم أكثر اكتئابًا وقلقًا.
رغم ذلك، يؤمن الكثير من الآباء والأمهات بأن تبني هذا الأسلوب أمر واجب عليهم. وفي العام الماضي، درس إيشيزوكا التوجهات السائدة بين أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة في الولايات المتحدة، حيال المبادئ والمعايير المرتبطة بالأبوة والأمومة. ووجد الباحث أن الآباء والأمهات “أعربوا عن دعم متشابه بشكل ملحوظ، لاتباع أساليب التربية المكثفة في العديد من المواقف المتنوعة”. وعندما طُرِح على الخاضعين للدراسة سيناريو لتربية طفل، اعتبر هؤلاء أن الآباء والأمهات الذين انتقوا الخيارات المرتبطة بأسلوب التربية المكثف – في إطار هذا السيناريو – شكلوا نماذج مثالية في تنشئة الصغار، ومنحوا من لم يفعلوا ذلك تقييمًا أقل.
لكن دي مول يرى أنه ربما يتعين على الأوروبيين اتباع أساليب أقل شدة وصرامة في تربيتهم لأبنائهم. ويقول في هذا السياق: “ما من حاجة لأن يخشى المرء من إمكانية أن يتخلف طفله عن ركب أقرانه، ما لم تكن الأسرة كلها في خطر بفعل الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية”.
ورغم الاهتمام الهائل وغير المسبوق بتنشئة الطفل وانتخاب أفضل الطرق للتربية لا زالت عملية التنشئة والتربية من أعقد العمليات التي يتولى مسئوليتها الوالدان وذلك مردوده أن الوالدين يبحثان عن صورة مُثلى للأبناء من ناحية، وأن آثار عملية التنشئة والتربية ستظهر آثارها في المستقبل القريب، مما يصيب الوالدان في معظم الأوقات بحالة من القلق والارتياب حيال ذلك الأمر.
إن التربية والتنشئة تحتاج لخطوة يغفلها الكثيرون وهي دراسة الطفل نفسه قدراته، مواهبه، اهتماماته ومساعدته في ضوء تلك القدرات التي تختلف من طفل لآخر على تنميتها بعيدًا عن النظر إليه كتجربة لإنتاج نموذج مثالي من وجهة نظر الوالدين قد يكون بعيدًا عن طبيعته الإنسانية وقد لا يكون مفيدًا في المستقبل.
المصدر / BBC عربي



