أسامة الزيني يكتب: "الفتى الذي يشبه السندباد" لأحمد قرني.. رحلة إلى الحقيقة على بساط الخيال

ديسمبر 17, 2023

"الفتى الذي يشبه السندباد" لأحمد قرني..
رحلة إلى الحقيقة على بساط الخيال

بقلم: أسامة الزيني

“الفتى الذي يشبه السندباد” لأحمد قرني، تحكي قصة شجرة تاريخية، بين زمنين، وعالمين، وبطلين؛ زمن قديم بطله طفل قديم، يدعى حسام الدين، ابن نجار يدعى معروف، وزمن معاصر بطلته فتاة تدعى علياء، تعلقت بجدها الذي عاد ذات يومٍ مهمومًا على أثر قرار أصدرته الإدارة المحلية، بقطع شجرة التوت “الجرداء غير النافعة” التي تتوسط المدينة، لإنشاء نافورة حديثة بدلاً منها. وفي مسعى من الفتاة علياء لإخراج جدها من حزنه على الشجرة التي كشف الجد عن أن لها قصة قديمة غيرت وجه الحياة في مدينة كانت في الماضي قرية صغيرة معزولة، قررت الشابة إطلاق حملة على إحدى شبكات التواصل الاجتماعي لحشد رأي عام لإيقاف قرار قطع الشجرة والإبقاء عليها، تقوم الحملة على سلسلة من المنشورات، كل منشور منها يحكي فصلاً من فصول حكاية الشجرة التي حكاها الجد لحفيدته، وبأسلوبها الجميل، تحكيها الحفيدة للناس. وهنا بدأ الكاتب رحلة سرد موازية متناوبة الفصول لقصتين، قصة الشجرة، وقصة تفاعل زملاء الفتاة علياء وأهل المدينة والجد أيضًا مع سلسلة المنشورات، التفاعل الذي انتهى في الأخير بنجاح الحملة، وتدخل المسؤول الرئيس في المحافظة لإلغاء قرار إزالة الشجرة، والإبقاء عليها. هذا فيما يخص البناء العام للعمل.

لكن تبقى رحلة الإمتاع والفائدة متركزة بالأساس في فصول قصة الشجرة، شجرة الحكايات المكتنزة بالأحداث والمواقف والخلاصات الإنسانية، في حين بقيت فصول القصة المعاصرة المتمثلة في الحملة التي أُطلقت على شبكة التواصل الاجتماعي وتطوراتها، أشبه بفواصل أو استراحات تخللت القصة التاريخية؛ لالتقاط الأنفاس، تضمنت متابعة أصداء الحكايات، وطرح بعض الأسئلة من قبل المتابعين، جاء بعضها غير منطقي، أو غير جاد، من دون تحولات جوهرية تذكر، أو ثراء قصصي، ما يجعل من هذه الفصل في تقديري فضاءات لم تُستغل على نحو موازٍ لنظيرتها التي تحكي القصة القديمة؛ لإلقاء ظلال معاصرة للقصة القديمة على واقع المتابعين، أو ما شابه من أوجه الإثراء القصصي والفني والجمالي، ربما لانشغال الكاتب بالقصة الأم المكتنزة بهذا كله.

تحكي القصة القديمة التاريخية فصول رحلتَي الفتى حسام الدين إلى حاضرة بغداد التاريخية، ثم إلى دمشق، حاملاً في كل من الرحلتين، قطعتي ذهب، هما حصاد عمر أبيه معروف، النجار رقيق الحال، من شقاء العمر في أعمال النجارة، بعدما أرسله برفقة قافلة القرية التجارية بصحبة الشيخ إسماعيل شيخ القافلة، على أمل أن يصبح ابنه تاجرًا يستثمر قطعة الذهب في البيع والشراء في أسواق بغداد ودمشق، فيعود إليه تاجرًا ناجحًا وتتحسن أحوالهما المعيشية. لكن الفتى المولع بالحكايات التي كان يصغي إليها بين يدي العم فراج رجل الحكايات، في ظلال شجرة التوت العريقة، شجرة الحكايات التي كان يجتمع عندها الأطفال، خلب لبه مبنى قصر وسط حديقة مبهرة في بغداد، اتضح له لاحقًا أنه مدرسة، التحق بها في مقابل قطعة الذهب الأولى، وتخرج فيها، ثم عاد صفر اليدين إلى أبيه الذي وافق على مضض بإرساله مرة أخرى في رحلة ثانية للقافلة إلى دمشق على أمل أن ينجح هذه المرة في استثمار قطعة الذهب الثانية في التجارة، إلا أن السيناريو نفسه تكرر بحذافيره، لكن في جامعة دمشق هذه المرة، فقدم قطعة الذهب الثانية مقابلاً للالتحاق بالدراسة في جامعة دمشق التي أبهره مبناها أيضًا، حيث تزود من علومها، وأصبح عالمًا، وبعد تخرجه في الجامعة، صادف بنائين يعملون على إنشاء مستشفى، رأى أن موقعه غير مناسب لوظيفته؛ لتردي الأوضاع البيئية حوله، فدخل في نقاش مع رئيس العمال، وانتهى به المطاف في قصر الوالي، حيث أثبت صحة حُجته، فأجلسه الوالي إلى جانبه، واتخذه بين كبار مستشاريه، وكافأه مكافأة عظيمة، تمكن بها من إرسال قافلة بضائع هائلة إلى أبيه في القرية، كانت تفوق أضعاف ما يحلم به معروف النجار؛ لأنه لم يستثمر في الذهب، بل استثمر في عقله، وهذه إحدى رسائل العمل الكبرى والأساسية التي تلح على قارئ العمل على مدار رحلة سرد ذكية، وضعت الفتى حسام الدين أمام قرارين مصيريين متكررين، مرة أمام باب مدرسة بغداد حيث تعلم الكتابة والقراءة والقرآن، والآداب، والتاريخ، والثانية أمام باب جامعة دمشق، حيث انخرط في جميع العلوم، فتتلمذ على تلامذة ابن سينا وغيره من العلماء الذين حفل العمل بأسمائهم وأخبارهم، وفي المرتين ضحى بقطعة الذهب في سبيل العلم، وهو ما يمكننا ترجمته وفق المفاهيم المعاصرة، بالاستثمار في الإنسان. وإن كنت أتحفظ هنا على تفاصيل صغيرة قد يتوقف أمامها ناشئ مجبول على الأسئلة حين يقرأ العمل، فالذي ناقش حسام الدين حول قيمة العلم هو حارس المدرسة، والحارس أيضًا هو الذي فاوضه على المقابل المالي، وقبل منه قطعة الذهب، وأمر الكاتب بتسجيل اسمه، وليس معلمًا توسط له للقبول، أو مسؤولاً في المدرسة وجد أنه يستحق الالتحاق بها لأنه ذكي وشغوف بالعلم، وفق ما يقتضيه منطق الأمور، فضلاً عن أنه سيكون حوارًا مقبولاً من معلم أو شخص في مقامه، فنجده يقول له: “ما قيمة جمع المال من غير العلم. (ص56)، ويقول: “لا يستوي التاجر العالم والتاجر الجاهل.” (ص56)، فلنا أن نتخيل أن هاتين العبارتين وردتا على لسان حارس، واقعه دليل على أنه لم يعمل بالنصيحة التي يقدمها للفتى، وكان الأولى بها شخصية عملت بها، وتؤدي زكاة العلم الذي تعلمته، من خلال دور تنويري مع فتى في مقتبل حياته عند مفترق طرق، ونرشد بها الناشئ إلى أثر العلم على أهله فيما يخرج من أفواههم من أحاديث. والمشهد نفسه تكرر في جامعة دمشق، أيضًا قام الحارس هناك بدور مدرس الجامعة، فأرشد، وقدم النصيحة، وتفاوض، وقبل قطعة الذهب أجرًا، وأمر بتسجيل اسمه في الجامعة.

***

ولم يكتف الكاتب بترك المتلقي يستنتج هذه الخلاصات الكبرى حول قضية العلم، وقيمة إثراء العقل، والاستثمار في الإنسان، بتمريرها إليه بين سطور السرد، فعمد إلى وضعها بين عينيه فوق السطور، عبر عبارات دالة، وردت على لسان الراوي، وكذلك على لسان شخصيات العمل الرئيسة والثانوية في حواراتها، مثل العبارة التي وردت على لسان المعلم في المدرسة، حين قال في حوار مع حسام الدين: “العلم الآن هو الخادم الذي يحقق لك كل ما تحلم به، العلم هو جني المصباح، فإذا تعلمت أصبح لديك مصباح سحري، مثل مصباح علاء الدين.” (ص71)، وعبارة الشيخ أمين إمام الجامع التي أقنع بها معروف النجار بترك ابنه حسام يسافر مرة أخرى، ومنحه قطعة الذهب الثانية والأخيرة التي يملكها، حين قال له: “العلم أفضل  وأثمن من الذهب؟” (ص 112)، ثم حديث الأب معروف النجار نفسه لابنه بعد اقتناعه بحديث الشيخ أمين، قائلاً: “لا فائدة للمال دون علم يا ولدي” (ص113)، كذلك حديث شيخ القافلة الشيخ إسماعيل للفتى حسام الدين، وهو يقدمه ليكون مرشده إلى كوخ راعي أغنام عثر عليه حسام الدين في طريق رحلته الثانية حين ضلوا الطريق، وذهبوا إليه ليرشدهم، فتعجب الفتى أن يقدمه شيخ القافلة ليقود مسيرتهما إلى الكوخ لأنه هو الذي ذهب من قبل واكتشفه، فرد الشيخ إسماعيل قائلاً: “صاحب العلم أولى بالقيادة.” (ص 116)، وإن كانت هذه العبارة موجهة للكبار والصغار معًا، وهي تعلي من قيمة العلم، ودوره في صناعة الشخصيات القيادية، وكذلك الاحتكام إليه في اختيارهم. وكذلك في حديث الشيخ معلم الجامعة في دمشق مع تلميذه حسام الدين حين تعجب الأخير من أمر ابن سينا الذي رفض المال الذي عرضه عليه السلطان مقابلاً لعلاجه من داء ألم به، وأراد بدلاً منه أن يفتح له مكتبة الجامعة، فتعجب حسام الدين من رفض ابن سينا المال في مقابل شيء كهذا، فكانت إجابة شيخه في الجامعة: “العلم أعظم من المال.” (ص126)

***

وإن كانت هذه العبارات المشار إليها عاليه، في صلب إحدى الفكرتين الرئيستين في العمل، المتمثلة في الاستثمار في الإنسان بالعلم، إلا أن العمل لم يخل من عبارات كثيرة، اغتنم الكاتب ما أمكنه من المواقف في بلورتها، والإلقاء بها في وعي الناشئ، منها عبارة: “لا يمكن أن نقطع صفحات من تاريخنا. (ص 32)، بما تحمله من دلالات على الأهمية الوجودية للتثبث بتاريخنا؛ لأن اتصالنا به اتصال موضوعي، تمامًا مثل كتاب، قطع أية صفحة منه حتمًا سيحدث خللاً في وعينا، وعبارة: “تلك هي فوائد السفر، أن تشاهد عادات الشعوب الأخرى، لكن حاول ألا تقلدهم في الزي، فلكل شعب ما يناسبه من أزياء وملابس.” (ص44)، ودلالتها واضحة فيما يخص مبادئ التواصل الحضاري الفعال من دون جور على هويتنا أو معتقداتنا أو قيمنا، وعبارة “ما أجمل أن تعود لوطنك منتصرًا رابحًا. (ص 76)، بما لها من إرساء لقيمة المواطنة والعودة بعد كل مكتسب يحققه المرء خارج وطنه لإثرائه، ومقاومة نزعات الهجرة، وعبارة “ليس كل ما نرثه من عادات وتقاليد يكون صحيحًا، علينا أن نفكر.” (ص 100)، بما تدعو إليه من إعمال العقل والتفكير النقدي ومراجعة المسلمات الاجتماعية والثوابت والأفكار البالية التي تعطل العقل، وتعيق عجلة التقدم عن الدوران. وعبارة: “على الإنسان أن يستعمل عقله وحكمته إذا ألمت به كارثة، ولا ينشغل بالحسرة والبكاء عن التفكير فيما ينجيه، ويضمن سلامته.” (ص 100)، بما تحمله من إيجابية، وتحدٍّ، وجَلَد، وغيرها من مفاهيم ما يسمى اليوم بعلم تطوير الذات والتنمية البشرية، وعبارة: “”عندما يتوه المرء تكون الهداية هي بضاعته.” (ص117)، وهي عبارة ذات أبعاد وجودية فلسفية، قد تبدو صعبة أو ثقيلة على الناشئ، وهي هكذا بالفعل، لكن المؤلف نجح في تمريرها وجعلها ممكنة الفهم، بسردها ضمن حوار فلسفي كبير، نجح المؤلف في تبسيطه، وأصبحت العبارة في سياقه عبارة مقبولة، وعظيمة الفائدة. جمع الحوار بين راعي الأغنام الذي وجد حسام الدين كوخه في صحراء المتاهة، وذهبوا إليه ليدلهم على الطريق الصحيح. جاء فيه:

“- من أتى بكما إلى هذه المتاهة التي لا يقربها إنسان؟ منذ سنوات طويلة لم أرْ بشرًا هنا.

  • ضللنا الطريق.
  • صحيح لا يأتي إلى هذه المتاهة إلا من ضل طريقه.
  • وماذا تفعل أيها الراعي وسط هذه الصحراء؟
  • أبيع وأشتري.

اندهش شيخ القافلة وقال:

  • وماذا تبيع في هذه الصحراء القاحلة؟
  • أبيع النصائح.

ضحك حسام الدين قائلاً:

  • تبيع النصائح؟ ولمن تبيع بضاعتك هذه في المتاهة؟
  • للتائهين.
  • وما بضاعتك التي تبيعها حتى نشتريها منك؟
  • بضاعتي هي ما تبحثون عنه؟” (ص 116 و117).

إلى آخر الحوار الذي بوسعنا القول إنه أيقونة حوارات العمل، وأكثرها إمتاعًا، وقيمة، وقد نجح من خلاله المؤلف في تمرير مضامين فلسفية، بلغة رشيقة، جزلة، سهلة الاستيعاب.

***

وتتركز الفكرة الرئيسة الثانية التي يمكننا رؤيتها بجلاء في ثنايا هذا العمل، في قيمة الحكايات/الكتابة/الأدب في الزمنين؛ زمن حسام الدين القديم، وزمن الفتاة علياء الحديث، ففي الزمنين لم يصدق الناس قيمة الحكايات، والعمل هنا ينتصر للحكاية/للكتابة/للإبداع/للكلمة، لقدرتها على التغيير وصناعة الفارق، وهو انتقاد مبطن لكفر المجتمع بقيمة الإبداع، وقيمة الكلمة، فقديمًا رأى أهل القرية أن حسام الدين فتى لا فائدة ترجى منه، ضيعته حكايات العم فراج رجل الحكايات، وحديثًا رأى الجد أن حملة حفيدته التي تقوم على التأثير وحشد الرأي العام من خلال الحكايات لا طائل من ورائها، بل نجد حولنا من الكتاب أنفسهم من يكفر بقيمة الكتابة وقدرتها على التغيير والتأثير، إن هو أخذها، إما على نحو نفعي شخصي، وإما على على نحو عدمي بوصفها فعلاً يائسًا كما نقرأ ونسمع كثيرًا، أو ممارسة لا تأثير لها، أو رفاهية إنسانية.

وتعددت السياقات التي دفع الكاتب من خلالها إلى ترسيخ هذه الفكرة الرئيسة داخل العمل، حين قال على لسان الراوي: “كانت الجمال بخبرتها تعرف أنها الرحلة الأولى له، وحتمًا سيشعر بالإرهاق وبعض الملل والحزن، تتذكر رحلات الأجداد الذين عبروا تلك الصحراء مرات عديدة، ليحملوا الخير والبضائع وحكايات الصحراء التي لا تنتهي والشعر والكتب والنور إلى كل الدنيا.” (ص 40)، هكذا قرن الخير والبضائع والنور بالكلمة متمثلة في الشعر، بوصفها ضرورة حياة كالطعام والشراب.

كذلك يحدد المؤلف أنه يعني الآداب على نحو خاص، ويخصها بقيمة عليا، تسبق قيمة العلوم الأخرى، بوصفها البوابة الواسعة التي نعبر منها إلى بقية العلوم، وبوصفها معين الحكمة والسمو الإنساني الذي يأخذ بأيدينا إلى بقية العلوم، ثم يرشدنا إلى استثمارها فيما ينفع الإنسان، وليس في تدمير الحياة حوله وإزهاق روحه، كما نشاهد حولنا اليوم من مفاسد بشرية، يرى الكاتب، بهذا الانحياز للحكاية/للأدب/ للكلمة، أنها سبيلنا إلى تجنب هذه الويلات. فنجده يحدد نوعية العلوم التي ينحاز إليها في حوار حارس المدرسة مع الفتى حسام الدين، حين أجاب الحارس قائلا: “هي مدرسة يتعلم فيها الناس القراءة والكتابة وفنون اللغة والشعر والنحو والصرف والتاريخ.” (ص56) فنجده هنا يحدد العلوم ذات الصلة بالأدب بالإضافة إلى التاريخ، أحد أبرز المواد، أو المصادر التي يعتمد عليها الأدباء في أداء رسالتهم الأدبية سواء الاستقرائية، أو الاستشرافية، ولارتباط التاريخ بالأساس بالهوية، حتى لا تتحول الكتابة أو القراءة، إلى مشروع تغريبي.

ولهذه الأهمية المركزية للحكاية التي ينتصر لها أحمد قرني في هذا العمل، نقرأ على لسان الحارس وهو يتفاوض بشأن المقابل الذي سيدفعه الفتى لدخول المدرسة ببغداد حين عرض عليه قطعة الذهب مقابلاً: “هي قطعة من الذهب الخالص، لكن للأسف هي لا تكفي.” (ص57) في إشارة دالة إلى قيمة الكلمة، قيمة الإبداع، وأنها أثمن من الذهب.

أيضًا يعيد الكاتب التأكيد على قيمة الكتابة والإبداع الكتابي في حديث التاجر الذي قال له: “لديك فرصة عظيمة للحصول على المال وأن تربح تجارتك؟ … أن تتعلم لغتك هنا في المدرسة وتتقنها”. (ص67) فلم يربط الأمر هنا بعلوم كالحساب مثلاً.

فيسأله حسام الدين:

– وما علاقة اللغة بالمال؟

– أجدادك القدماء من العرب نبغوا في العلوم، مثل الطب والهندسة والعمارة والكيمياء؛ بسبب أنهم أتقنوا اللغة العربية أولاً، ثم اللغات الأخرى.” (ص68)

ثم يؤكد المؤلف مجددًا الدفع في خط الحكاية/الأدب قبل غيرها من العلوم، ولا أقول دونها بالتأكيد، في حديث التاجر للفتى حسام الدين في مدرسة بغداد، حين قال له: “اُنظر يا حسام، هذا بيت المعلقات السبع، أشهر قصائد الشعر عند العرب القدماء في الجاهلية، اقرأها واعرف لماذا سميت بالمعلقات، ومن شعراؤها؟.” (ص68)

ويمكننا أن نقرأ بجلاء توجه المؤلف الواضح إلى الاحتفاء بالحكاية/بالكلمة/بالأدب، بدءًا، وفي المقام الأول، وقبل غيره من العلوم، في حديث شجرة الحكايات التي استغرقت مهمة إنقاذها العمل كله، برمزيتها الدلالية الواضحة، حين اتهمها والده معروف النجار بأنها “السبب في ضياع ولدي الوحيد حسام الدين بكثرة حكاياتك، لقد ملأت رأسه الصغير بحكاياتك الخيالية.”، وهنا يتدخل الراوي قائلاً: “حاولت الشجرة أن تدافع عن نفسها، وتقول إنها حركت خيال صاحبها فقط وعلمته كيف يحلم، كيف يغني، علمته الفضيلة والحكمة بحكاياتها.” في هذه الجملة يختزل الكاتب جوهر فكرته في هذا العمل الذي يحتفي بأدب الحكاية في المقام الأول، ويجسد من خلال أحداثه دور الحكاية في تشكيل وعي الأجيال، وبناء عقولهم، وهي رسالة للجميع هنا، وإن كانت موجهة أكثر للكبار؛ حتى لا يستهينوا بها، وحتى يرعوها حق رعايتها.

***

وإلى جانب الفكرتين الرئيستين، تجدر الإشارة إلى عدد من الأفكار الثانوية التي تفرعت عنهما، ضمن انسياب التيار السردي داخل العمل، تتصدر هذه الأفكار، ما أرغب في تسميته نحتًا في اللغة، بالمُجايَلة، أو تقارب الأجيال فكرًا، وقطع الطريق على فكرة صراع الأجيال، من خلال عبارات ذكية سعى من خلالها المؤلف إلى خلق حالة من التعاطف المتبادل بين الأجيال، فنجده يقول على لسان الراوي: “دائمًا ما نتخيل أن الكبار أقوياء، ولا يحتاجون إلينا، والحقيقة غير ذلك.” (ص 11)، وهذه عبارة تجلب تعاطف الصغار مع الكبار، حتى لا يكونوا أنانيين معهم. ثم يقول على لسان الحفيدة علياء في معرض حديثها مع جدها: “هل تظن أن جيلي لا يهتم بالقضايا الكبرى؟ (ص 18)، وهذا سؤال يحفز الكبار على إعادة النظر فيما يعتقدون عن الصغار، وكذلك في خطابهم معهم. ويمتد نهج المؤلف في عقد مصالحة بين الأجيال إلى القصة القديمة الموازية، نجد الراوي يقول عن معروف النجار والد الفتى حسام: “لم يكن يرغب في أن يرث ابنه مهنة النجارة وهو عازف عنها ولا يريدها … لكي تكون ماهرًا في صنعتك، يجب أن تحبها.” (ص22). ثم يوسع الكاتب دائرة المجايلة، أو المصالحة بين الأجيال، لتتسع للأشخاص الذين لا تربطهم علاقة قرابة، فحين غامر حسام الدين وذهب لاكتشاف الكوخ فوق التل وعاد ليخبرهم بأنه كوخ راعي أغنام، فقرروا الذهاب إليه لسؤاله عن الطريق الصحيحة، هنا اتخذ منه الشيخ إسماعيل، شيخ القافلة دليلاً له.

“- هيا تحرك أمامي يا حسام الدين لترشدني.

اندهش حسام الدين من أمر شيخ القافلة:

كيف أصبح دليلاً لشيخ القافلة؟

–       لأنك أعلم مني بالطريق، وصاحب العلم أولى بالقيادة يا ولدي.” (ص 116).”

هنا يتصالح الشيخ إسماعيل مع فكرة أن يقوده فتى من جيل أصغر؛ لأنه أعلم منه بالطريق، وسط دهشة من الفتى.

تتجلى المجايلة كذلك في مساندة حكيم بلاط قصر الوالي لرأي حسام الدين خريج الجامعة الشاب، حتى يُعطَى الفرصة لنجاح تجربته، وقد نجحت بالفعل، فلم يحجر على رأيه، أو يستهن به، بل أعطاه الحق في المحاولة، ودعمه في مواجهة رفض مسؤول البلاط واستهانته به لصغر سنه. (ص143 و144)

وفي ظل هذه الشواهد الكثيرة تتأكد دعوة المؤلف إلى عقد مصالحة بين الأجيال عنوانها المحبة، والعدالة، والحوار المتبادل، والثقة، والدعم، أو بلغتنا المعاصرة “التمكين”.

***

بقيت الإشارة إلى ملمح فني، رئيس من ملامح العمل، أفضل تسميته بأنسة الطبيعة والمخلوقات؛ كالشجرة والشمس والجمال، فاستنطاق هذه الموجودات والمخلوقات، ليس خيالاً بالمعنى، بقدر ما هو إعادة قراءة للوجود بقوة الخيال، لخلق حالة من التأمل عند المتلقي، والتأسيس لعلاقة وجودية بينه وبين الأشياء، هكذا يتحول العمل في بعض مشاهده إلى رحلة إلى حقائق الوجود. ومن أمثلة ذلك مشهد الجمال الذي جاء فيه على لسان الراوي:

“قالت الجمال وهي تناجي بعضها بعضًا إن حسام الدين لم يخرج من القرية الصغيرة التي ولد فيها، وهذه هي المرة الأولى التي يرى فيها مدينة كبيرة، أما الجمال فقد عبرت صحاري عديدة من قبل، وشاهدت مدنًا لا حصر لها…” (ص43)

وجاء أيضًا: “ضحكت الجمال لما رأت حسام الدين يفتح عينيه من الدهشة …” (ص44)

ثم تتطور الفكرة حين تتحول هذه المخلوقات إلى معلم للإنسان:

الجمال تود أن تقول له: “تلك هي فوائد السفر، أن تشاهد عادات الشعوب الأخرى، لكن حاول ألا تقلدهم في الزي، فلكل شعب ما يناسبه من أزياء وملابس.” (ص 44)

ففكرة أن الجمال تعرف أكثر منه إشارة إلى قدم الوجود، وأنه أقدم من الإنسان، وأن عليه أن يحترم هذا القدم ويقف بتواضع، حتى أمام المخلوقات غير العاقلة التي قد تكون أكثر خبرة منه بالعالم، وهذا يرسخ التفكير الوجودي ويخلق النزوع إلى التأمل عند الناشئ، وفي المقابل يعزز النظرة الموضوعية إلى العالم ومراعاة الحواجز الزمانية والمكانية التي تجعلنا في حاجة دائمة إلى الاكتشاف والتعلم واكتساب الخبرة والمعرفة، وليس إطلاق الآراء والأحكام من خلف أسوار العزلة.

الفتى الذي يشبه السندباد، رواية

تأليف أحمد قرني

الناشر: مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية

الطبعة الأولى، 2023